هند رجب و"الأسد الفضي"

 

 

محمد بن رامس الرواس

"هذه المرة أجابتهم هند رجب بذعر وخوف شديدين" عمو قاعدين بيطُخُو علينا، الدبابة جنبنا، إحنا بالسيارة والدبابة جنبنا" استمع إليها الهلال الأحمر، وقام بتسجيل المُكالمة وأعطوها بعض التعليمات ومنها الاختباء تحت المقاعد، وبقي هذا التواصل لساعات، فلقد اتضح للفريق أنها الناجية الوحيدة وأنها لا تزال في مرمى الخطر، وظلت تطلب النجدة".

لم تكن هند رجب مجرد طفلة غابت في لحظة قصف وابل من رصاص بلا هوادة على سيارة أسرة نازحة، بل كانت – وما زالت – أيقونة للبراءة التي اغتيلت على جدار القسوة، في مقال سابق لي بجريدة الرؤية بعنوان "هند رجب.. حكاية إبادة شعب أعزل"، كتبت مقالًا عن هند رجب؛ إذ كان صوتها الذي تم تسجيله وانتشر في العالم استجارة وطلب نجدة للإنسانية وكانت صرختها نداء للعالم كله أن يصحو أمام المجازر الإسرائيلية والإبادة والتجويع والقصف.

وها هو صوتها يعود اليوم، لا عبر الهاتف ولا عبر أنين سيارات الإسعاف، بل من أروقة مدينة البندقية، حيث ارتفعت شاشات العالم لتعرض فيلم يحمل اسمها: "صوت هند رجب"، من إخراج التونسية كوثر بنت هنية، وبإنتاج عالمي شارك فيه نجوم كبار مثل براد بيت، خواكين فينيكس، روني مارا، وألفونسو كوارون.

في 29 يناير 2024، عاشت هند ساعاتها الأخيرة داخل سيارة مثقوبة بالرصاص مع عائلتها، وهي تستجدي الهلال الأحمر عبر الهاتف، بصوتٍ متهدج، وطفولة مذعورة، كانت كلماتها قصيرة، لكنها حملت أثقل ما يمكن أن يُقال؛ جمعت الخوف والرجاء، البراءة والخذلان، لتصبح وصيتها الأخيرة للعالم.

اليوم، يترجم الفن هذه الولادة الجديدة لصوت هند، حيث استقبل جمهور مهرجان البندقية الفيلم بتصفيق امتد أكثر من 23 دقيقة متواصلة، وهو رقم غير مسبوق، تصفيق كهذا لا يُمنح إلا للأعمال التي تنجح في لمس إنسانية الإنسان، مهما اختلفت ثقافته ولسانه.

حين كتبت أن صرخة هند ستبقى، لم أكن أتخيل أن تكون هناك مؤسسة عالمية باسم هند رجب مقرها بروكسل وأن هناك فيلم عالمي يحكي قصتها سينافس على جائزة الأسد الذهبي، ويحصد جائزة الأسد الفضي وجائزة لجنة التحكيم الكبرى، ثاني أرفع تكريم في المهرجان. والأكثر من ذلك، أنه سيُمثل في سباق الأوسكار 2026 ضمن فئة أفضل فيلم دولي.

ما بين مقال الأمس وصوت اليوم، يتضح أن رسالة هند قد تجاوزت حدود غزة؛ فقد أصبحت رمزا عالميا فالفيلم – بما يحمله من قوة الصورة والذاكرة – مرشح لأن يُحدث أثر عميق في الوعي العالمي تجاه المأساة الفلسطينية، وأن يكون واحد من أبرز الأفلام العربية التي تخترق وجدان السينما الدولية.

"سيبقى نداء هند مسموعًا" لينتشر في العالم كله، مؤكدًا أن براءة الأطفال حين تُغتال، لا تُدفن تحت التراب، بل تتحول إلى ضوء يهدي الضمائر نحو الحقيقة، فاسم هند رجب أصبح مؤسسة عالمية وضميرا إنسانيا حيا لم يُنسَ، ومن قتلوها ذهبوا إلى مزبلة التاريخ مع جرائمهم البشعة وبقي صوتها واسمها وقضيتها شاهدة على أعظم جرائم التاريخ على مرِّ الزمن.

الأكثر قراءة